موقع راديو و تلفزيون لوبه نت
اضف اهداء

صوت فيروز الذي يحرسنا

صوت فيروز الذي يحرسنا  | موقع سوا
2015-11-22 17:54:41
+ -

سوا فلسطين - : يجلسُ الرجل ذو اللحية الخفيفة في الكرسيّ الأمامي من السيّارة، في الطريق للجامعة، يطلبُ من السائق أن يطفئ الصوت الذي يخرج من المذياع، يبدو على الرجل أنه متديّن. صوت فيروز يخرج من أجهزة الصوت في جوانب السيّارة، تردد "لمّا عالباب يا حبيبي منتودّع.."، يرفض السائق، ويقول بكلّ بساطة "هاي فيروز.. ما بطفيها! .. إذا بدك انزل"، تتوقف السيارة، ينزل الرجل في الكرسي الأمامي، في اللحظة التي تبدأ السيّدة فيها بغناء "راجعين يا هوى.."، ونبقى وحدنا يحرُسنا صوت فيروز في الدقائق القليلة التي ستصنع لنا يومًا جميلًا، لأن بدايته كانت بها، ومن أجلها.

  أنا، لا أعرفُ كلّ أغاني فيروز، لا أحفظها جميعها، رُبما يُسمعني أحدهم أغنية ما للسيّدة وأكون لا أعرفها. هذه العادة لترك مسافة للمصادفة، للدهشة، دهشة الاكتشاف الجديد، أحاول أن أُبقي مخزونًا كبيرًا كي أكتشفه فيما بعد من أغانيها. فأنا أعرف المئات منها، لكن لا أظن أني أعرف تلك الآلاف كلّها. سأتقدم وأبحث عن أغنية جديدة كلّ أسبوع، أو كلّ يوم، أتذوّق متعة الاكتشاف الجديد لكلمات يُغنيها هذا الصوت الإلهي الوحيد الباقي بيننا، أتلذذ بهِ كصلاة، صوتها نُسكٌ خاصّ، تقرب آخر إلى الله.

مرّة اكتشفت فيروز. هكذا بكلّ بساطة، كنتُ داخلًا بيت أختي ظهر يوم الجُمعة، كنت آنذاك طفلًا صغيرًا حديث العهد بالأغاني، تصدحُ السيّدة في أرجاء المنزل "سلّملي عليه.. بوسلي عينيه". سحرتني، لم أكن أعلم ما أفعل بهذا الصوت الذي صادفني كما لو أنه هدية من السماء، عدتُ للمنزل وبحثت عنها في الانترنت، أصبحت الأغنية منذُ ذاك اليوم الشيء الأمثَل الذي أبدأ به صباحي.

عرفتُ فيروز من مصادفة صغيرة، ربما لم تكن تحدث، لم أكن من أولئك الناس الذين عرفوها في صغرهم عندما كانت جداتهم تسمعنها كلّ صباح، شعرت أني خسرتُ الكثير حينها، أربعة عشر عامًا بدون هذا الصوت، كأني وجدتُ هواءً جديدًا. هكذا كانت فيروز بالنسبة لمراهق صغير لم يعرف في محيطه سوى الأغاني التافهة التي تُبثّ في الأعراس. أحبّ فيروز، لا أعلم لماذا، سيقول أحدهم "لأنّ صوتها حِلو"، لكن لا، ليس لذلك، فأم كلثوم صوتها جميل، وكاظم الساهر أيضًا، وأغلب أولئك الذين يغنّون يمتلكون أصواتًا جميلة. أحبّها، لشيءٍ لا أعلمه، رُبما لن أعلمه، وأظن أنّ هذه ستكون مهمة الأجيال التي ستأتي بعد آلاف السنين، على علماؤهم اكتشاف هذه الظاهرة الإنسانيّة. أظن أنّ.. -لا أظن، بل أنا متأكد- فيروز ظاهرة إنسانية فريدة، نحنُ المختارون من الإله لنعيش عهدها الطويل ونهتدي إلى صوتها.

 سألني أحدهم قبل أسبوعين "ما هي أجمل أغنية لفيروز؟"، لم أمتلك الإجابة التي يُريدها، هذا السؤال لا يجوز في حالة فيروز، بإمكانك أن تسأله وتضع بدلًا من اسمها أي مطرب آخر، لكن في حالتها السؤال يخرج من دائرة المنطق. على العالم أن يتوقّف عن هذا السؤال، أن يمنعه بأسرع وقت، لأن مثل هذه الأسئلة لا تجلب لنا إلّا المزيد من الخسارات، خسارة أن نضيّع الوقت في السؤال الذي لن نجد له جوابًا، ونحن نقلّب أغنيات فيروز واحدة تلو الأخرى.

 دائمًا ما يقول أخي وهو الملتزم دينيًا، أنه لا يُحب الأغاني، أو يحرّمها. أمرّ في بعض الصباحات مكان عمله لأجد صوت السيّدة يصدح "يا زهرة المدائن.."، رُبما يسمعها لأنّ الأغنية ذات طابع وطني. لكن ما يُهم في الأمر أن صوتها أخذه، وهو يرفض الفكرة ككلّ. السرّ يمكن في مفعول هذا الصوت السحري، صوتها. يبدو لي أنّ فيروز حالة خاصّة، كما قلت "ظاهرة فريدة". كيف اجتمع كلّ هؤلاء الناس على صوتها، فيما اختلفوا بملايين الأشياء. فرّقتهم معتقداتهم وآرائهم السياسيّة، جنسيّاتهم، لُغاتهم، حدودهم، لكنهم اجتمعوا ولمرّة واحدة على شيءٍ واحد "صوت فيروز". 

 فيروز هي التعبير الوحيد عن حالتنا على الدوام. أنا أستمع فيروز في الصباح، المساء، منتصف الليل، عند الفجر، في الحُزن تليق فيروز، في الوجع، وفي حالات الفرح، تبدو فيروز هي الوحيدة القادرة على لعب كافّة الأدوار، أو -إتقانها-، كيف يمكن لإنسان ما أن يتقن هذه الحياة بكلّ حالتها. ولماذا يستمع الناس لها في كلّ حالاتهم، لأنها الوحيدة القادرة على الشعور بهم، سواء بكلمات أغانيها، أو نبرتها، صوتها، أدائها الفريد.

 وأنا أكتب، أستمع لفيروز، الجميع يتحدث عن -الثمانين- عامًا من الجمال التي بلغتها. أسأل نفسي، كيف لشخص مثلي أن يقدر على كتابة مثل هذه الظاهرة. أتوقف عن الكتابة، كما سيفعل أيّ شخص يقرأ ويملّ، ثم أذهب للاستماع لها، لأن التعبير الوحيد عن فيروز، هو صوت فيروز وحده.